رحلة جنون بقلم رثد نيازي




رحلة جنون  بقلم  رثد نيازي


كانت تلك ليلة هادئة اقود فيها سيارتي على الطرق ٢٨ بجانب بحيرة هايستون.
امتدت السماء صافية سوداء بنجومها اللامعة حتى الافق الكالح الى تلاشي قدرة بصرك على التمييز.
و اضواء الفورد تنير لي الدرب.
 ضغطت ازرار الراديو علي اجد شيئاً لطيفاً استمع اليه؛ اغنية للراحل مايكل جاكسون او جورج مايكل او ايغلس بـ"كالفورنيا هوتيل" فجميعها تذكرني بأمور لطيفة وتنعش روحي.
لم تكن السيارات كثيرة في ذلك الطريق  كما مرت بين الحين والاخر حيوانات برية بجانب الطريق تخشى عبور الشارع إلا تصدمها سيارة مسرعة.
اما داخل اعماق روحي فقد استسلمت للطريق الطويل امامي؛ فعليّ ان اقود ساعات طويلة لاصل مقصدي. ربما تتجاوز العشر ساعات.
حتى الان قد قطعت مسافة ساعتين و اخذت افكر بالاستراحة بأول نزل امر به.
اخذت خريطتي التي كانت بيد صديقي الذي غلبه النوم و هو يتمعن بها. وتتعبت الطريق ٢٨.
- حسناً علي ان اتبع الطريق حتى اصل نزل ميوستا المهجور فبعده يأتي طريق هانا الابيض.
 حدثت نفسي مفكراً فلم يتبق امامي الا مسافة ساعة لاستدير يساراً الى طريق هانا الابيض بعد ذلك المعلم.
واخيراً، وكأن احدهم علم ما يجول في خاطري؛ ايغلس عبر المذياع:
On a dark desert highway, cool wind in my hair
Warm smell of colitas rising up through the air
Up ahead in the distance, I saw a shimmering light
My head grew heavy and my sight grew dimm....
اخذت اغني و ادندن معه و كأني بعمر الخامسة عشر.
تململ ليو و جلس متثائباً:
- اين نحن؟
- على بعد ساعة او اقل من هانا الابيض.
- حسناً. دعني اتولى القيادة بعد قليل.
- حسناً. كل شيئاً ما. هنالك بعض الطعام في المقعد الخلفي.
 حاول جاهداً للوصول الى الطعام، واخيراً نجح.
وبعد افتراسه للطعام فأقل ما يمكنني القول عن طريقة ليو بتناول الشطائر هو الافتراس، اخبرني بأنه بحاجة للوقوف الى جانب الطريق فمثانته قد امتلئت. وسرعان ما توقفت الفورد.
 ولكن في غضون ربع دقيقة عاد صديقي راكضاً الى السيارة وقد تغير وجهه من الانفعال.
صاح:
- ادر المحرك. انطلق بسرعة. هيا هيا.
- ماذا حدث؟
 - حرك الفورد اللعينة! اسرع!
ادرت المحرك وقد ظننت ان صديقي قد جن او ربما يمزح لكن سرعان ما تلاشت عني فكرة المزاح فلم ار وجهه بمسحة ذهول كهذه.
- ليو! ما الذي حصل؟! هل رأيت جثة؟ ماذا هناك؟
- قد ارجوك. قد بأقصى سرعة.
- سأركن الى جانب الطريق لتحدثني الآن.
- كلا، كلا ارجوك. سأخبرك. انا اشعر بالتعب فحسب.
- حسناً اخبرني.
 - عندما كنت على بعد عدة امتار عن السيارة داخل تلك الارض البرية، حلق شيء ما فوك رأسي؛ كنت لأظنه طيراً بيد انه كبير. كان شيئاً ضخماً. لم اصدق نفسي رفعت عيني بحذر..... لا اصدق يا مايك، لا يمكنني ان اصدق!
التزم ليو الصمت على حين غرة و لشدة انفعاله و الذهول الذي اعتراه لم اشأ ان اسأله مجدداً حزناً عليه، فأنا لا اريد ان اخسر اعز اصدقائي فقد كنت قلقاً عليه كثير.
وبعد مرور دقائق من الصمت. همس:
- انظر!
- ماذا؟
- انظر هناك. ألا يمكنك ان تراه؟
- لا. آسف.
- أحقاً! تمعن اعلى الافق. هل يمكنك ان ترى شيئاً يلوح هناك؟
- نعم.. حسناً، ما ذلك بحق الجحيم!
 - انه ما اخبرتك عنه. انه عملاق يا مايك. حام فوق رأسي. لا اعلم ان كنت لأقول (حام)، فهو ليس بطائر حقاً.
- آه، ليو. انه يقترب. أليس كذلك؟!
- رباه! اسرع!
- هذه اقصى سرعة يمكنني القيادة بها ليو!
- كم تبقى لنا لنصل مفترق هانا الابيض؟
- نصف ساعة.
 - كثير جداً. يا ألهي!
كان ذلك الشيء اغرب شيء شاهدته في حياتي. لا اعلم ماهو ولا كيف اصفه. بدا كخيوط او شرائط ذات لون اسود متكتلة بشكل يشبه النانغن. اما حجمه، ربما مترين مكعبين. وبين الفينة والاخرى تلتمع منه ومضة حمراء قرمزية.
هنالك شر ما.... شر عظيم يصدر عنه وهو يلاحقنا بسرعة تكاد توازي الفورد. اما ليو فظل يردد الادعية ويبتهل الله ان يخلصنا بينما اركز انا على القيادة.
وفجأة، ظهرت سيارة من خلفنا و كأنها جاءت من العدم. وحين نظرت في المرآة الجانبية لم اجد له اثراً.
- حسناً ليو. لقد اختفى. انه يخشى غيرنا. ربما لا يريد ان يراه احد.
ليو؟ ليو؟ ليو؟
 ماذا بك؟!
نكزت صديقي بيدي و لم يبد اي استجابة. نكزته مجدداً ثم اضطررت لسحبه بيدي لقليلاً مبقياً عيني على الطريق.
صرخت صرخة هزت الكون. استخالت بشرة ليو الى لون رمادي شاحب كالشمع والدماء تسيل من انفه وعينيه و فمه. وقد تيبس تماماً فاصبح كجثة مر عليها وقت جففها.
بقيت اصرخ بشكل هستيري تارة و التفت اليه تارة اخرى لمدة لا اعلمها حتى وجدت نفسي في طريق هانا عند نزل مورت.
 ركنت السيارة بسرعة وغطيت ما تبقى من صديقي المسكين بملاءة بعد ان وضعته بشكل لا يجعل احد يشك بأنها جثة.
وخلال ثوانٍ كنت في المطعم بجانب النزل. اريد طعاماً لا اعلم كيف سأكله غير اني اريد شيء ينسيني ما يحدث؛ شيء يخبرني بأني اعاني من كابوس وسأصحو قريباً فلا يمكن ان يحصل شيء كهذا في الحقيقة!
جاءني شاب بملابس نظيفة يحمل دفتر ملاحظات:
- تفضل.
- اريد.... اريد شيء ما. ما ذلك الشيء؟ ما هو؟ انه في طريق ٢٨.
- سيدي، هل انت مخمور؟
- كلا، ابداً. لقد طاردنا. ظل يطاردنا.
- اتصل بالشرطة او غادر فوراً فنحن لسنا بحاجة الى المشاكل.
 - ارجوك، لا اريد ان ارحل. اتصل بالشريف.
وخلال دقيقة كنت اتحدث الى رجل الشرطة المحلي وصفت له ما طاردنا دون ان اذكر ما حصل لليو.
جاء الشريف الى النزل ليتأكد من ان كل شيء على مايرام ضماناً لسلامة بلدته. وحقاً كما كان لم يكن هنالك اي مؤشر لوجود خطر- على الاقل في ذلك الوقت.
عم الهدوء قلبي مجدداً، فرغم تلك المعاناة و رغم كل ما حصل شعرت ان قلبي منتشياً. لا اعلم السبب بالتحديد غير انه كان مفعماً بطاقة لا مثيل لها.
تحركت الى غرفتي تاركاً جثة ليو ربما لتتحلل او ربما ستتفرغ فيها طاقة تحوله الى ميت حي.
 لم افكر فيه الا لثوانٍ معدودة وخلدت في سبات عميق.
مر قسم كبير من الليل دون ان يزعجني شيء؛ لا بعوضة و لا ضوضاء حتى اقتربت الساعة الواحدة والنصف؛ ذلك الوقت الذي استيقظ فيه دوماً على ابشع الكوابيس.
 و ها بدأت الحكاية مرة اخرى.
كنت اسير في منتصف حقل ذرة واسع بجانب طريق ريفي لا يمر فيه احد الا نادراً. تنقضي ساعات و انت وحيد ان قطعته.
 وفي تلك الاثناء وبينما اتلفت نحو اليمين والشمال، سمعت صوت يشبه صوت هدير ماء. تلاقفه سمعي كهدير شلال بجانبي فوضعت يدي على اذني وسرت مسرعاً علي اخرج من هذا الحقل فظلامه موحش و هذا الصوت مرعب متزامنان مع الوحدة التي تقلقني.
اختفى الصوت، توقفت، اصغيت ... لم يكن هنالك صوت دالٍ على اي اثر للحياة! لا بوم و لا حتى جندب!
 اصغي لأنفاسي اللاهثة المتقطعة التي تجتاح ذلك السكون المثالي.
حاولت التحرك غير ان شيء ما اصابني، احسست بأن قدميّ تصلبتا و يديّ صارتا ثقيلتين جداً. دب خدر عبر وجهي و صار بصري حاداً وكذلك سمعي فأنفاسي المتهجدة اصبحت كصراخ بدويها المتقطع.
حاولت ان احني رأسي لأرى قدميّ غير اني لم افلح فقد تصلب جسدي بأكمله بالفعل.
شعرت بثقل متزايد في رأسي و بشيء ما عليه.
 تجمد قلبي و لم اعد اشعر ببرودة الجو المنعشة و لا بنسمات الهواء. فقدت كل شيء إلا سمعي وبصري الذين ازدادا حدة.
وخلال دقائق علمت يقيناً بأني قد استحلت الى فزاعة! وفي الك اللحظة قفزت من فراشي والعرق يتصبب مني.
 - "يا ألهي! حمداً لك انه مجرد كابوس!"
تذكرت ليو و ما حصل بيد اني لا ازل كغير الواع لما جرى؛ وكأني احاول ابعاد الامر عن خيالي او اني احاول ان لا اصدق ما حدث. لا اعلم كيف اصف ما دار في عقلي.
نهضت شارباً كأس ماء و اتجهت خارجاً من غرفتي صوب الفورد خاصتي. مشيت في مرآب النزل و الحصى الصغيرة تطقطق و تفرقع تحت قدمي كمن يهمس لي في هدوء ذلك الليل. لا سيارة و لا اُنسي في الشارع. سكون مطبق و بوم يحدق اليّ من على عمود كهرباء قديم متهالك قرب الطريق الرئيسي. فتوقفت محدقاً به بدوري حتى حركت ساقي رغماً عنها.
وحين وصولي سيارتي سقطت ارضاً من صدمتي لرؤية ليو جالساً ينتظرني بغضب.
 كل شي طبيعي للغاية وحي للغاية! لا اثر للدماء التي سالت على وجهه و لا لأي شي قد حصل!
اسرعت نحوه وفتحت له الباب المقفل.
- لم تركتني؟!
- اسف؛ إلا تعلم؟! لقد.... لقد....
- ماذا! كنت نائماً حين غادرت انت وتركتني هنا! كنت تعباً جداً فلم استيقظ حين غادرتني!
- حسناً، انت.... حسناً، انا اسف.
- احمق. دعني اكل شيء ما. اشعر بجوع شديد. اتوق للحم.
 - هيا بنا.
لم يستطع عقلي تفسير ما يحصل؛ الم يمت ليو! الم ينزف دماً؟! اين كل الاثار؟! اين وجهه الشاحب! اقنعت نفسي بزيارة طبيب نفسي ما ان اصل وجهتي.
 جلسنا لتناول بعض الطعام. و كانت الساعة تشير الى الثانية صباحاً. طلب ليو طبقين كبيرين من اللحم نصف نيء و طلبت انا قطعة واحدة من البيتزا و عصير.
التهم صديقي الغريب اللحم كالمسعور وانا اراقبه فاقداً لعقله. و مما زاد شكي بعقلي هو عدم ذكر ليو لما حصل في الطريق وما رأى ابداً. تصرف كأنسان طبيعي لدرجة الجنون، ومن ضمن ذلك افتراسه للطعام رغم علمي بعدم تفضيله للحم نصف النيء.
بعد ذلك ذهبنا لنخلد للنوم فبأنتظارنا يوم شاق. وتقلبت قليلاً في فراشي بينما نام ليو في التو.
هجم علي النوم في حين غرة حتى رن المنبه معلناً الساعة السادسة صباحاً. وكان اول ما بحثت عنه عيناي هو ليو. لكنه لم يكن في فراشه، ولا حتى في الغرفة. كان باب الحمام مفتوحاً وباب الغرفة موارباً.
 ارتديت ملابسي و خرجت مسرعاً للبحث عنه في الفورد. وهنا بدأ الشك يدب و يحيا في تفكيري غير اني كنت على يقين من ان ما حصل البارحة حقيقة وان ليو على قيد الحياة. وفعلاً كان تفكيري، فلم يكن له اثر في السيارة.
لم اجد الحارس في الخارج ولم اقابل في طريقي اي شخص اخر. ذهبت لابحث في جميع ارجاء النزل لكني لم اجد احداً منهم!
 لم استطع منع الافكار التي تزاحمت و تدافعت و تضاربت في رأسي. فالجميع اختفى بينما الشمس اخذت تلوح في الافق اي انهم ليسوا نياماً ابداً. و كيف يغادر الحارس؟!
قررت بأني قد جننت و ان عليّ ان اهدأ من روعي قليلاً وان اصبر حتى يمر هذا الوقت العصيب الذي اعانيه. فجلست لساعتين كاملتين انتظر ظهور احدهم. تارة التجأ الى غرفتي و تارة اتنقل في المبنى.
ثم قررت المغادرة وعدم العودة مهما كان السبب عبر طريق ٢٨ و رفيقه هانا الابيض الموحشان.
مرت ساعات طوال وانا اتوقف عند محطات تعبئة الوقود لاملأ خزان الفورد و اتناول بعض الطعام و اخذ قسطاً من الراحة في سيارتي الحبيبة.
وفي اخر محطة اي على بعد ساعة من مدينة ستكولت، كانت هنالك ملصقات غطت الجدران.
ترجلت من سيارتي لاتفحصها فعددها كبير جداً.
فيها صورة لرجل يشبهني تماماً. يشبهني وكأنه توأمي. كأنه انا! كتب تحت الصورة:
"مطلوب للعدالة مقابل ١٠٠،٠٠٠$"
 اما فوقها فبخط عريض كتب:
"سفاح مختل. يبدو كرجل عاقل غير انه مجنون.احذروه! مايك الملقب بــالسفاح لــيو"
- انه انا... انه انا. حسناً، انا و انا ليو. حسناً احب الحياة. نعم انا احبها. جميلة.
تحرك ذلك المجنون نحو المدينة، و صندوق سيارته الفورد اطبق بالكاد لعدد الاجزاء البشرية التي قطعها و حشرها هناك.
 ففي الصندوق قبعت اجزاء كل من كان في النزل!
قاد نحو ستكولت وهو يغني لأيغيلس "كالفورنيا هوتيل":
On a dark desert highway, cool wind in my hair...
Warm smell of colitas rising up through the air...
Up ahead in the distance, I saw a shimmering light
My head grew heavy and my sight grew dimm....


29حرفاً Letter29
@harfn29

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

22 نصيحة من ســتيـفن كــينــغ لتصبح كاتبا عظيما

أحببت رجل متزوج زوجته كانت صديقة طفولتي